من نوفمبر/تشرين الثاني، أعلن مارك زوكربيرغ أن الشركة ستتخلى عن 13% من قوتها العاملة، أي أكثر من 11 ألف موظف حول العالم، بهدف تقليل النفقات.
ثلاث محطات في الزمن
منذ بدايات شركة فيسبوك، تحديدا عام 2005، تعلَّم مارك زوكربيرغ درسا مهما وهو أهمية أن يحافظ على مركزه في إدارة الشركة، ويصبح صانع القرار الأخير ويملك التحكم الكامل، لهذا أنشأ هيكلا إداريا لا يمكن لأحد فيه، ولا حتى مجلس الإدارة، أن يُطيح به من رأس الشركة. ومنذ تلك اللحظة، أصبح زوكربيرغ مُحصنا، حتى إذا قرر إعادة توجيه دفة الشركة إلى رهان محفوف بالمخاطر مثل الواقع الافتراضي والميتافيرس، بل ويمكنه حتى بمفرده تغيير اسم الشركة بالكامل!
وفي عام 2008، بعد توظيف شيريل ساندبرج، مديرة الإعلانات في شركة غوغل، مديرةً تنفيذيةً للعمليات في فيسبوك، ترك لها زوكربيرغ الحرية لتأتي بأفكار جديدة تدرّ الأموال على شركته. ساهمت ساندبرج في إنشاء نظام يقدم إعلانات فعالة للغاية بناء على استهداف البيانات الشخصية للمستخدمين. (6)
هذه الفكرة نجحت في تحويل الشركة إلى آلة أموال لا تتوقف، لكنها جاءت بتكلفة باهظة وهي استياء وغضب المستخدمين أنفسهم، وجعلت فيسبوك تحت رحمة أي قوة خارجية تتحكم في تدفق تلك البيانات، سواء كانت تلك القوة من الكونغرس الأميركي أو حتى من المتحكمين في أنظمة تشغيل الهواتف الذكية مثل أبل وغوغل. وهذا تحديدا ما حدث عندما قررت أبل إطلاق ميزة "شفافية تتبع التطبيقات" مع نظام تشغيل هواتفها iOS 14.5، التي أوقفت معها قدرة فيسبوك على الاستهداف الصحيح في الإعلانات، ما أفقدها مليارات الدولارات من عوائد الإعلانات. (7)
في كتابه "معضلة المبتكر"، أشار الأستاذ بجامعة هارفارد كلايتون كريستنسن إلى الابتكارات الثورية الجديدة، التي تفترض معها الشركات أنها ضمنت هيمنتها على السوق، لكنها سرعان ما تتراجع وتنهار معها الشركات التي اعتنقتها بمجرد ظهور الابتكار المزعزع التالي، لأن نجاح تلك الشركات مرتبط بالنموذج الحالي من الابتكارات. (8) هذه المعضلة هي ما واجه زوكربيرغ مع تحول نشاط الحوسبة السحابية بشكل أساسي من أجهزة الحاسوب التقليدية إلى الهواتف الذكية. تأخر مارك في تحويل دفة شركته للتركيز على كيفية عمل منتجاتها على الهواتف الذكية التي أصبحت الوسيلة المثلى للوصول إلى مليارات المستخدمين. ومنذ ذلك الحين، أُصيب مارك بهاجس تخلُّف شركته حين يصل الابتكار الثوري الجديد ويسيطر على السوق، وبهذا كان يحاول دائما أن يتجنب "معضلة المبتكر".
حلم الميتافيرس
دعنا نوضح أولا أن فكرة الميتافيرس تقوم في الغالب على تجربة المستخدم التي تنشأ من تقنيات وأجهزة الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR) والأجهزة الحسّية التي تسمح باستشعار حركة الجسم وردود الأفعال وإضافتها إلى التجربة. بجانب ذلك هناك منصات البرمجيات التي ستسمح بإنشاء وعرض تلك التجارب، مثل منصة "هوريزون ورلدز" (Horizon Worlds) الخاصة بشركة ميتا.
ولكي يحقق زوكربيرغ هذا الحلم، أنفق مليارات الدولارات، واستنفد طاقات آلاف الموظفين في الشركة، لأنه يؤمن أن الميتافيرس سيكون مستقبل الحوسبة، حتى إنه وضع نفسه في واجهة استعراض التقنيات الجديدة التي تُطوِّرها الشركة، لكن محاولاته أدت إلى نتائج عكسية في بعض الأحيان.
في أغسطس/آب الماضي، نشر مارك على صفحته على فيسبوك صورة "الأفاتار" الخاص به من منصة "هوريزون ورلدز"، لكن شكل الأفاتار المسطح الشبيه بأفلام الرسوم المتحركة كان مثار سخرية واسعة حينها. بعدها وجَّه زوكربيرغ الموظفين إلى إعطاء الأولوية لتحسين وتطوير شكل الأفاتار، لتعمل الشركة على إنشاء نسخة محدثة منه بسرعة.
بعد أربعة أيام من نشر زوكربيرغ للصورة الأولى، شارك نسخة رقمية جديدة من نفسه، واعترف بأن الصورة الأولى كانت "بدائية جدا" في حين أن "الرسومات في اللعبة قادرة على تقديم المزيد". وأشار أحد مصممي الجرافيك ممن يعملون في الشركة، عبر منشور على لينكد إن الذي حُذف بعدها، إلى أنه وفريقه صمموا ما يقرب من 40 نسخة من وجه مارك زوكربيرغ على مدار أربعة أسابيع، قبل أن يوافق على النسخة النهائية التي عرضها.
حماس زوكربيرغ للميتافيرس قابله تشكُّك واضح من الموظفين في الشركة، ففي شهر مايو/أيار الماضي، شارك 1000 موظف من ميتا في استطلاع رأي أجرته شبكة "بلايند" (Blind)، التي تسمح للموظفين بنشر آرائهم عن شركاتهم دون الكشف عن هوايتهم، ذكر فيه 42% أنهم لا يفهمون إستراتيجية الشركة حول مشروع الميتافيرس.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، أشارت مذكرة داخلية من الشركة، أرسلها "فيشال شاه" (Vishal Shah) نائب الرئيس المسؤول عن إدارة الميتافيرس، إلى أن منصة "هوريزون ورلدز" تعاني من عدّة مشكلات في الجودة، وأن الفريق الذي يعمل على تطويرها لا يستخدمها من الأساس، وأشار إلى أن التطبيق سيظل مغلقا لنهاية العام للتأكد من حل مشكلات الجودة والأداء قبل إعادة إطلاقه لمزيد من المستخدمين. (10)
صعوبات تقنية
يحث بعض المحللين شركة ميتا على التفكير في الميتافيرس أولا من ناحية تجربة المستخدم المباشرة، في حين تتعامل الشركة مع الفكرة من وجهة نظر طويلة الأمد بالتركيز أكثر على استغلال فرص العمل المتاحة في هذا السوق الجديد. في العام الماضي، أبلغت الشركة عن خسارة بنحو 10 مليارات دولار في قسم "أبحاث الواقع" (Reality labs) الذي يعمل على تطوير تقنيات ووحدات الواقع الافتراضي والواقع المعزز، ورغم توجه الشركة في تقليل النفقات، عبر تسريح 11 ألف موظف عالميا، فإنها تخطط للاستمرار في الإنفاق على القسم وعلى فكرة الميتافيرس، حتى إن كانت ستخسر 10 مليارات دولار كل عام. (11)
لا تزال فكرة الميتافيرس في مراحلها المبكرة من التطوير، لذا من الصعب أن تجد الشركات مطورين يملكون المهارة الكافية وعلى دراية كاملة بتلك المنصات الجديدة، إلى جانب أن تطوير معدات وتقنيات الواقع الافتراضي والمعزز تحتاج إلى أدوات وموارد وبنية تحتية لم تتوافر بالصورة الكافية حتى الآن.
الأهم أن فكرة إنتاج منصة حوسبة جديدة تستبدل الإنترنت كما نعرفه، أو حتى إن كانت باسم "ويب 3" (Web3)، ستعتمد على أكثر من مجال جديد ناشئ، مثل الحوسبة السحابية وتعلم الآلة وعلوم البيانات بجانب الواقع الافتراضي والمعزز، كل تلك المجالات لا تزال في بداياتها من حيث التطوير والاستكشاف، لذا حتى إن أرادت الشركات الكبرى مثل ميتا أن تبدأ في صناعة الميتافيرس الخاص بها الآن، فغالبا ستواجه عقبات صعبة للغاية في الطريق.
توجهات ميتا
في الماضي، كانت ميتا تخفف من صدى مشكلاتها دائما عبر نتائجها المالية الضخمة. لذا، ما الضرر إذا كان المستخدم يكره الشركة وهي تصنع ثروات هائلة للمستثمرين والسهم ينطلق نحو الأعلى رافعا قيمة الشركة إلى تريليون دولار؟
لكن الآن، وبعد تبخر تلك المكاسب في الهواء، بدأت تلك المشكلات في احتلال صدارة المشهد. الشركة ومؤسسها أهملا تطوير منتجاتها الرئيسية، حتى وصلنا إلى هذا الوضع. على مدار سنوات، كانت كل التغييرات الكبيرة في فيسبوك وإنستغرام وواتساب وماسنجر تدفعها مصلحة شركة ميتا فحسب، وليست مصلحة مَن يستخدمون خدماتها.
وبدلا من تطوير وتحسين تلك الخدمات، تُنفق الشركة موارد ضخمة لنسخ منافسها الرئيسي حاليا تيك توك، وهو أمر لم يرغب به أي مستخدم من مستخدمي فيسبوك. هذا بجانب أن فرصة استنساخ الفيديوهات القصيرة في خاصية "ريلز" (Reels) على إنستغرام لن تتجاوز مشاهدات الأصل في تيك توك لسببين مهمين: أولهما خوارزمية تيك توك القوية التي لم يعرف أحد سرها حتى الآن، والثاني هو اختلاف طبيعة الجمهور وأعمارهم لكل تطبيق ومنصة.
الجيل الجديد، أو "الجيل Z"، غالبا ما يربط فيسبوك بأنه منصة الآباء والعائلة والإخوة الأكبر. لهذا بحثوا عن منصة تناسبهم، مكان جديد يجمعهم يبحثون فيه عن الانتماء، وكان هذا المكان هو تيك توك! لهذا تحاول شركة ميتا تقليد التطبيق حتى تصل إلى هذا الجيل، لكنها تنسى مستخدميها الأصليين في الطريق.
ما الحل لهذه المعضلة إذن؟ ربما تكون البداية أن يعترف مارك زوكربيرغ بأن شركته ميتا هي شركتان وليست شركة واحدة، إحدهما شركة تقنية ستراهن على بناء حلم الميتافيرس في المستقبل، والأخرى شركة تواصل اجتماعي ضخمة تملك مليارات المستخدمين يوميا.
شركة تتولى إنشاء الواقع الافتراضي، بأجهزته وأدواته ومنصاته، حتى لا يفوتها المستقبل، باستثمارات منفصلة، والأخرى تركز على التطبيقات الاجتماعية الموجودة فعلا، وتحاول تطويرها بما يناسب المستخدم وتجربته في المقام الأول، بدلا من التركيز على تقليد تطبيقات أخرى ناجحة! وبهذا يتجنب أن تتحول علامته التجارية الشهيرة إلى "نيو كوك" أخرى، وفي الوقت نفسه لا يقع ضحية لمعضلة المبتكر
0 التعليقات:
إرسال تعليق