كشفت التداعيات الاقتصادية السلبية لجائحة كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا، مدى هشاشة البنية الاقتصادية لجُل الدول العربية، وتظهر الأوضاع الاقتصادية أكثر سوءا في كل من مصر وتونس ولبنان، كما أن السودان واليمن وسوريا، يعانون بشكل مماثل لتلك الدول، إن لم يكن أكبر.
هناك مجموعة من الأسباب أدت إلى تراجع قيمة العملات المحلية لتلك الدول أمام الدولار، منها حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني، فعلى مدار العقد الماضي، لم تكن البيئة الاقتصادية ومناخ الاستثمار في هذه الدول، مهيأين لتشجيع الاستثمارات المحلية، فضلا عن عجزها في جذب الاستثمارات الأجنبية.
كما أن هذه الدول، تصنف على أنها تعتمد على العوائد الريعية بشكل ملحوظ، وكذلك الحصول على المساعدات الخارجية، ولم تنجح على مدار العقود الماضية في تحويل وضعها إلى اقتصاديات إنتاجية، فمثلا تعتمد كل من مصر وتونس ولبنان وسوريا بشكل رئيس على عوائد السياحة وتحويلات العاملين بالخارج.
ويزيد اعتماد مصر مقارنة بغيرها من تلك الدول بمصدرين آخرين، من المصادر الريعية، وهما الصادرات النفطية وعوائد المرور بقناة السويس، ويجمع هذه الدول أن غالبية صادراتها السلعية هي صادرات مواد خام، أو في أحسن الأحوال صادرات تقليدية.
ويفهم تأخر البيانات في كل من السودان واليمن وسوريا، بسبب الأوضاع الأمنية والسياسية غير المستقرة، والتي من الصعب أن تمارس فيها أنشطة اقتصادية من هذا النوع، فضلا عن العجز المتعلق بإنتاج البيانات.
لبنان
كانت الأزمة الاقتصادية محركا لغضب الشارع، بعد عجز الحكومة عن سداد التزاماتها تجاه السندات الدولارية في نهاية 2019، وأضافت تداعيات كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا، عبئا آخر أسهم في تراجع سعر صرف الليرة اللبنانية بشكل كبير.
ومع تزامن الأزمة الاقتصادية مع الأزمة السياسية في لبنان، وفشل التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، قفزت أسعار سعر صرف الليرة اللبنانية، من 1500 ليرة للدولار في 2019، إلى أكثر من 40 ألف ليرة للدولار بالسوق السوداء، وأكثر من 24 ألف ليرة للدولار بالسوق الرسمية.
السودان
قفز سعر صرف الدولار من 45 جنيها عام 2019، إلى أكثر من 500 جنيه للدولار، ومما زاد من أزمة الجنيه السوداني، تراجع الوضع السياسي، ووقوع اختلاف كبير بين المكونين المدني والعسكري، فضلا عن توقف الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وتجميد غالبية برامج المساعدات الخارجية.
سوريا
ما زالت الحرب تلقي بظلالها السيئة على الواقع الاقتصادي، وتظهر الأزمة بوضوح على سعر صرف الليرة السورية، حيث بلغ سعر الدولار في أكتوبر/تشرين الأول 2022 نحو أكثر من 5 آلاف ليرة بالسوق غير الرسمية، ونحو 2800 ليرة بالسوق الرسمية.
اليمن
تعكس أسعار صرف عملة اليمن المحلية، مدى الأزمة السياسية والاقتصادية في البلد، فهناك سعران للصرف داخل البلاد، أحدهما في عدن وحضرموت وهو يقدر بنحو 1132 ريالا للدولار، وسعر آخر في صنعاء عند 558 ريالا للدولار، بعد أن كان سعر الدولار عام 2015 بحدود 230 ريالا.
ما أثر تراجع عملات تلك الدول على مواطنيها؟
تراجع العملات، هو أحد الأسباب التي أدت إلى زيادة أعباء المعيشة على مواطني تلك الدول، جراء زيادة معدلات التضخم، وبالتالي انخفاض قيمة ثروات الأفراد.
وهناك آثار سلبية أخرى تتحقق بسبب تراجع العملات، مثل ارتفاع قيمة الواردات السلعية، وتباطؤ حركة النشاط الاقتصادي لدى المؤسسات التي تعتمد على استيراد مستلزمات الإنتاج، والعدد والآلات، فضلا عن تأخر وصول السلع الضرورية.
ومما يضر باقتصادات تلك الدول بسبب تراجع قيمة عملاتها، شيوع ظاهرة الدولرة، وهي ملموسة بشكل كبير في كافة الدول التي أشرنا إليها في هذه السطور، فأصبح الدولار هو العملة المعتمدة في تقييم أي نشاط اقتصادي، إن لم يكن أداة الدفع وتسوية المعاملات المالية والاقتصادية.
ومن هنا نجد أن تجارة العملات بالسوق السوداء منتشرة في هذه الدول، وترجع كل هذه الآثار السيئة على المواطن، خصوصا محدودي الدخل والفقراء، الذين زاد عددهم في الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ.
سياسة الحكومات
المتابع للشأن الاقتصادي في كافة الدول العربية بشكل عام، والدول التي أشرنا إليها هنا بشكل خاص، يجد أن هناك حالة إصرار من قبل حكومات تلك الدول، ببقاء الحال على ما هو عليه من تبعية للخارج، واستمرار استيراد الكثير من السلع، وعدم تبني مشروع للتنمية مرتبط بجدول زمني ومحاسبة، كما حدث في العديد من الدول الصاعدة.
فارتفاع قيمة العملات المحلية، مرتبط بالأداء الاقتصادي الجيد لأي دولة، بينما جُل الحكومات العربية، تعتمد على الديون المحلية والأجنبية، أو تلقي المساعدات، ولا يعنيها انهيار ثروات الأفراد نتيجة تراجع قيمة العملة، كما لا تمتلك خططا إستراتيجية لمواجهة التضخم، وغير معنية بتقوية مكونات الناتج المحلي.
وتغيب عن الحكومات العربية برامج الحماية الاجتماعية، وإن وجدت فهي قاصرة على موظفي الحكومة والقطاع العام، والقطاع الخاص المنظم، بينما غالبية العمالة في سوق العمل غير المنظم، كما أن تلك البرامج قاصرة أيضا على المساعدة النقدية الشهرية الهزيلة، دون وجود برامج للتأمين الصحي أو الاجتماعي الذي يعاني من غيابه غالبية السكان.
ومما يزيد من الآثار السلبية لتصرف الحكومات العربية على المواطنين، أن تلك الحكومات لا تمتلك سياسة اقتصادية معنية بتحقيق حالة توازن بين الأجور والأسعار، وليس لديها استعداد لتبني برامج لرفع الحد الأدني للأجور لجميع العاملين في سوق العمل.
اللجوء لصندوق النقد
خلال الأشهر الماضية، أشارت وسائل الإعلام إلى سعي كل من مصر وتونس ولبنان للوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، بشأن وضعها الاقتصادي، من أجل الحصول على قروض، كما أن وضع السودان معلق من قبل المؤسسات الدولية لحين حل الأزمة بين المدنيين والعسكريين.
أما سوريا واليمن، فمن الصعب الحديث عن إمكانية إبرام اتفاقيات بينهما وبين صندوق النقد الدولي بسبب وضعهما السياسي والأمني.
ومؤخرا، توصل الفريق الفني بتونس إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بنحو 1.6 مليار دولار، كما صرح محمد معيط -وزير المالية المصري- عن قرب توصل بلاده إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، أما لبنان فوضعه معقد بسبب التداعيات السياسية هناك.
وبشكل عام، ومن خلال تجارب سابقة، فجميع الدول العربية التي أبرمت اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي، فشلت في حل مشكلات القطاعات الإنتاجية، واقتصرت برامج التصحيح على النواحي النقدية والمالية، لذلك تتجدد الأزمة التمويلية كل فترة، بسبب إهمال الإصلاح بالقطاعات الإنتاجية، وتكون قروض صندوق النقد الدولي وكذلك القروض الأخرى التي تنبني على قرض الصندوق، هي مجرد مسكنات، وليست حلولا جذرية لاقتصاديات الدول العربية المأزومة.
أوضاع مالية مهترئة
تنعكس المؤشرات المالية لأي دولة على أدائها الاقتصادي، وبشكل عام فإن الدول التي تعتمد اقتصاداتها على مصادر ريعية، تظل في تصنيف الدول المتخلفة أو النامية، وإن كانت ذات وضع مالي جيد، بينما الاقتصاديات التي تعتمد على مصادر إنتاجية وقيمة إضافية عالية، هي تلك التي تصنف على أنها دول متقدمة.
وإذا نظرنا للأوضاع المالية للدول المشار إليها، نجد أنها جميعا تعاني من عجز في ميزان المدفوعات، فحسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي، بلغ العجز في ميزان المدفوعات بمصر عام 2020 نحو 14.2 مليار دولار، وفي السودان 5.8 مليارات دولار، وفي لبنان 2.9 مليار دولار، وفي تونس 2.5 مليار دولار.
أما اليمن فكان العجز بميزان مدفوعاتها 2.4 مليار دولار في عام 2016، وسوريا كان العجز بميزان مدفوعاتها 367 مليون دولار في عام 2010.
أما احتياطيات النقد الأجنبي فهي تعبر بوضوح عن أزمة هذه الدول العربية من حيث مواردها الدولارية، فأكبر احتياطي من النقد الأجنبي لمصر، حسب أحدث الأرقام كان 33.1 مليار دولار، وكذلك تونس 4.9 مليارات دولار، ولبنان 2.2 مليار دولار في يونيو/حزيران 2022، أما اليمن والسودان واليمن، فلا تتوفر عنهم بيانات حديثة يمكن الاعتماد عليها.
وآخر تلك البيانات عن التضخم، حيث تحتل هذه الدول قائمة معدلات التضخم المرتفعة، وبخاصة في الدول التي تعاني من نزاعات مسلحة في سوريا واليمن والسودان، حيث كانت معدلات التضخم في السودان 387% خلال عام 2021، وفي سوريا بلغ معدل التضخم خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2022 نحو 130%، ولبنان بلغ معدل التضخم 211% خلال يونيو/حزيران 2022، وفي اليمن بلغ معدل التضخم
0 التعليقات:
إرسال تعليق